تحدثتُ في الجزء الأول من هذه المقالة عن تركيا ما قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم.
في هذا الجزء أتحدث باستفاضة، عما عايشته ورأيته بنفسي، من تطورات وتغييرات تدريجية، منذ استلام الحزب مقاليد الحكومة وعلى رأسه السيد رجب طيب أردوغان رئيساً للوزراء، لتتغير حال البلاد بشكل تدريجي ورائع والحمد لله.
الحياة الاقتصادية
أول علامة فارقة في عهد أردوغان كان انتعاش الاقتصاد، إذ قفزت تركيا قفزة هائلة في ١٠ اعوام فقط، فدفعت الحكومة الى تسريع عجلة المشاريع الخاصة والحكومية، والتوجه نحو الخصخصة، وفتح مجال الاستثمارات للأجانب بشكل موسع، وتسهيل القروض ودعم القطاع الزراعي والصناعي والتجاري، وبعدما بدأ الاقتصاد التعيس يلتقط أنفاسه تدريجياً، توجهت الحكومة لليرة التركية الهزيلة فأسقطت عنها الأصفار، لتصعد منصة المنافسة مع أقوى العملات العالمية خلال سنوات.
أعيش في العاصمة أنقرة، ورأيت كيف تباسقت ناطحات السحاب والمشاريع العملاقة التي قلبت أنقرة وإسطنبول وغيرها من المحافظات التركية رأساً على عقب بفضل الله.
وعلى سبيل المثال، اليوم طريق مطار أنقرة من أجمل الواجهات الحضارية، يحتوي طريقاً تذوب فيه الثلوج بنظام حراري متقدم أسفل الشارع، وتم إزالة أغلب البيوت العشوائية (التي كانت أول ما يحط عليها نظر المسافر الواصل إلى أنقرة) واستبدلت بمشاريع عملاقة لا يمكن وصف روعتها:
المواطن التركي البسيط الذي ما كان يحلم بامتلاك شقة أصبح بامكانه امتلاك شقة صغيرة بتقسيط أشبه بالإيجار الشهري، من خلال مشاريع تدعمها الحكومة التركية مثل مشاريع TOKI.
من خلال مشاهداتي اليومية أصبحت سيارات الدفع الرباعي تملأ الشوارع ومواقف مراكز التسوّق، ويتحمل أصحابها تكلفة وقودها بسبب الرخاء (الوقود في تركيا يصنّف من بين الأغلى على مستوى العالم).
خلال 10 سنوات، انتشرت في أنقرة وإسطنبول وحدها العشرات من مراكز التسوّق (مول) على أحدث طراز، وكل مركز يتميز بمسجد رائع أجمل من الآخر.
المساجد
العسكر والسياسة
تركيا تجزم الآن بأن عهد الانقلابات العسكرية قد ولّى، فتم تحجيم المؤسسة العسكرية بالتدريج، دون الصدام المباشر معها بتحدي علمانية الدولة، وهو الخطأ الذي ارتكبه حزب الرفاه الإسلامي السابق، وبذلك تم إعادة العسكر لدورهم الأساسي، حماية الدولة، وترك السياسة للحكومة والأحزاب السياسية.
الحياة الجامعية
أما الجامعات التي كانت تمنع ارتداء الحجاب من بوابتها الخارجية، فبحمد الله الآن تتجول فيها المحجبات بكل حرية، وجامعتي (الشرق الأوسط) التي لم “أهوّب” ناحيتها لمدة 11 عاماً، دخلتُها أخيراً غير مصدقة وأنا مرتدية حجابي، وفي عهد أردوغان.
اليوم عاد آلاف الطلاب والطالبات المظلومون لمقاعد الدراسة بعد أن شملهم عفو جامعي عام بعهد حكومة العدالة والتنمية، فقد تم استصدار قانون عفو شامل لجميع من تركوا مقاعد الدراسة الجامعية (البكالوريوس والماجستير والدكتوراه) من سنوات الثمانينات لأي سبب كان، ليعودوا لمتابعة الدراسة الجامعية، وبالطبع كان مقصوداً بهذا العفو من حرموا من التعليم لأسباب كثيرة، مثل الحاجة للعمل، أو الوضع الاقتصادي السئ، ولكن أكثر من استفاد من هذا القانون كن المحجبات!
من تركت جامعتها التركية بسبب حجابها واستعوضت ربها خيراً عادت الآن لجامعتها برأس مرفوعة وبالحجاب. صدقاً.. من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، والله ما حلمتُ ولا تخيلتُ أبداً أن أتجول في جامعتي التركية بهذه الحرية، وأن أرى الكثير من المحجبات مثلي، في أروقة الكلية وشوارع الجامعة.. ياااااااه.. كيف تغير الحال!
اليوم لم أصدق عيناي وأنا أتسلم هويتي الجامعية وعليها صورتي بالحجاب أخيراً، الهوية التي كنتُ أحرص على إخفائها داخل جيوب محفظتي خوفاً من أن يرى صورتي غريب وأنا بدون الحجاب!
صدقاً..
لن أستطيع ان أصور لك حجم المعاناة التي خضناها كمحجبات من أجل هذه اللحظة التاريخية!!
لحظة عودتي للجامعة، وأنا أستعيد ذكرياتي فيها، تذكرتُ أستاذي التركي القدير الذي ترأس لجنة أوصت بطردي لمخالفتي قواعد الزي الجامعي (إي والله)، فذهبتُ إلى مكتبه، لقد أصبح نائب رئيس الكلية اليوم، طرقتُ بابه واستأذنته بالدخول، ثم سألتُه إن كان يتذكرني. المدهش أنه تذكرني.. وقال اسمي بركاكة.. كولوت.. وكانت الدهشة تغطي وجهه، مقابل السعادة التي غطت وجهي. بعد أن حدثته عن أخباري خلال السنوات التي مضت، وعودتي لمتابعة الدراسة، سألني بتردد وحيرة: هل تركت جامعتك كل هذه السنوات بسبب الحجاب؟ أجبته بفخر وبدون تردد: نعم واليوم أعود!
جامعتي التركية (معقل العلمانية ولا زالت) أضحى أكثر من ربعها محجباتـ وأكثر من نصفها طلبة ملتحون ولله الحمد.
صديقتي التركية بتول، التي تركت الجامعة فتفرغت لحفظ القرآن الكريم، عادت بالعفو الجامعي وأتمت المادتين اللتين تبقتا لها، وتخرجت بالحجاب.
رسالة للقراء: لا تفقدوا الأمل!
اليوم أفرد سجادتي في أي مكان بجامعتي في أي قاعة فارغة وأصلي دون اعتراض أحد ولله الحمد..
رسالة لكِ: اصبري شوية كمان.. ولا تفقدي الأمل!
اليوم تؤدي أكثر من 20 نائبة محجبة اليمين الدستورية تحت قبة البرلمان التركي، بعد أن كان الأمر من المحرمات!
اليوم يُرفع الحظر تماماً عن الحجاب في جميع المؤسسات وأماكن العمل التركية، وترتدي 67% من النساء التركيات الحجاب.
اليوم سيدتا القصر الجمهوري (أمينة أردوغان وخير النساء جول) ترتديان الحجاب، داخل القصر نفسه الذي كان صاحبه سبباً في سقوط الخلافة العثمانية!
في بدايات تولّي حزب العدالة والتنمية الحكم، كان أغلب معارضي أردوغان “من الإسلاميين” يجعجعون أول فترة حكمه أنه لم يف بوعوده في تحرير الحجاب، وكانت حملاتهم الانتخابية ترتكز على أن حزب أردوغان حزب منافق، وعد بأنه سيضع قضية الحجاب نصب عينيه، لكنه لم يفعل شيئاً، وبقي الأمر كما هو عليه طوال فترتين انتخابيتين!
لكن..
أن تلعب السياسة بذكاء وأن تطور الاقتصاد المنهار أولاً وتنهض بالبلاد، فتُسكت أبواق المعارضين وتحظى بثقة الشعب أولاً، ثم تعود لأمر الحجاب، هكذا لعبها أردوغان. فرغم تحرقنا وشوقنا لتحرير الحجاب منذ البداية، لكن صبرنا مع أردوغان وبتوجهات حزبه طول تلك السنوات أتى بثماره خيراً بالنهاية!
اليوم أردوغان يفطر في خيام الإفطار وفي بيوت الفقراء، وعبد الله جول يشارك موائد لاجئي سوريا برمضان. أين تجدون رئيس دولة أو رئيس وزراء يفعلان هذا؟
اليوم أمينة زوجة أردوغان يصلها “إيميل” مواطن تركي يائس أرسل مئات الإيميلات العشوائية أملاً في أن يستطيع تخمين إيميلها الشخصي، لأنه ابنه في المستشفى في وضع حرج ولا يملك علاجه، فتتصل به هاتفياً بالليل، لتخبره بأن الإيميل وصل إليها، وأن السيد رئيس الوزراء أردوغان سيكون معه الآن على الخط ليخبره بأنه سيتكفل بعلاجها! (المصدر)
اليوم اللغة العربية مادة رسمية بالمدارس الحكومية التركية، ولي الفخر أنني وخالتي وزوجي وأبنائي شاركنا في الفريق الذي قام بتصحيح جزء من منهج الوزارة وتسجيل أصوات الكاسيت التعليمي في الاستوديو!
اليوم الصحف والمجلات نظيفة من الصور الخليعة إلا ما ندر، التلفاز الحكومي الرسمي محترم وبرامجه ثرية،
ويتم إلزام جميع القنوات التركية أن تضع على مسلسلاتها وأفلامها علامة تنويه للفئة العمرية المناسبة لمشاهدتها، ما يعكس قمة الاحترام للمشاهد!
اليوم تركيا “تجاهلت” الاتحاد الأوروبي ومطالبه التعجيزية، وشقت طريقها باتجاه العالم العربي والإسلامي الأقرب لها ديناً وثقافة وتاريخاً، فانقلب الاتحاد الآن يخطب ودها!
اليوم تركيا تصنع دباباتها وسياراتها وقطاراتها وجسورها وعتادها ونواطحها ومطاراتها وماركاتها بنفسها!
صليت الفجر في جمعة في رمضان بمسجد حاجي بايرام بعد ١٦ عاماً، وهالني تغير حال النساء هناك، كانت صلاة فجر لكن والله قسم النساء غص عن آخره والصفوف تراصت من أولها لآخرها وفتيات صغيرات كن في الصلاة! حتى أن الإمام بعد الصلاة دعا لأهل فلسطين و سوريا و العراق والنساء تعلو أصواتهن ويؤمن خلفه ويبكين!
حضرت أعراس إسلامية تركية، والله قمة التحضر والرقي، لا موسيقى صاخبة، ولا رقص ماجن، ولا ثياب خليعة، حتى أنني كتبت عن أعراس الأتراك ووصفتها بالتفصيل الذي يخلع جبهة أعراسنا، في مقالتي “عروس تركية” لمن تريد التزود 😊
اليوم وللأسف بعض القنوات العربية تغرق العالم العربي بالمسلسلات التركية لأهداف خبيثة، فيأتي السياح منهم بحثاً عن قصر مهند ونور، أو بحثاً عن حريم السلطان، فيتفاجؤون بدولة ذات تاريخ أعظم وأعمق من محتوى شاشاتهم المسكينة، التي لم تأخذ من تركيا إلا الزبالة، وكتبت عن ذلك في مقالتي “عن العشق الممنوع أتحدث“..
ورب رمية من غير رام، فكان تأثير هذه المسلسلات إشعال فضول الشعوب العربية، لزيارة تركيا ومعرفتها عن قرب، وبالتالي الوقوع في حبها وغرام أهلها وأرضها، ليؤموها سياحة عاماً بعد عام 🙂
والكثير الكثير الكثير، مما لا تسع ذاكرتي تذكره، لكن هذا ما يحضرني مما شاهدته وعايشته في تركيا خلال فترة تواجدي فيها التي تجاوزت نصف ما مضى من عمري!
والله شهادتي في تركيا وفي أردوغان مجروحة. وأرجو أن تكون شهادة حق، تشهد لي يوم القيامة..
وأسأل الله الثبات، لأهل الحق، والعاقبة للمتقين بإذن الله 😊
مقال جميل جدا و نفرح نحن المسلمون بمعرفة وضع تركيا الراقي لكن أ خلود أحزن و أتضايق عندما تتكلمين عن المجتمع التركي كأنه المجتمع المسلم المثالي ، لي صديقات من… اقرئي المزيد »
كلامك صحيح.. وأنا لم أعمم.. إنما نقلتُ تجربة 🙂
بسم الله الرحمن الرحيم سمعت عن تركيا منذ صغري انه بلد جميل جدا وكذلك ناسها لأن والدتي زارتها وحكت لنا الكثير عن جمالها وبساطة شعبها وحبهم للناس …وصدقا اتمنى ان… اقرئي المزيد »
“”ورب رمية من غير رام، فكان تأثير هذه المسلسلات إشعال فضول الشعوب العربية، لزيارة تركيا ومعرفتها عن قرب، وبالتالي الوقوع في حبها وغرام أهلها وأرضها، ليؤموها سياحة عاماً بعد عام… اقرئي المزيد »