الأوركيد.. زهرة غالبا ما يتم اهداؤها في المناسبات.. تزين مكاتب العمل.. وتظهر كثيرا في صور الديكورات الراقية..
وقعت في عشق هذه الزهرة عندما رأيتها لأول مرة في منزل والدة صديقة تركية، كان لديها ما يزيد عن العشرة منها، كلها زاهية، وألوانها تخلب الألباب، وقعتُ في حبها ولكني لم اجرؤ على شرائها يوما، ولم ادر لماذا!
ثم جاءتني الزهرة هدية من زوجي في يوم ميلادي، كانت بيضاء، جمييييييييييلة، تقف بشموخ، يلفها وشاح من الساتان والشيفون الأبيض وعقد من اللؤلؤ الصناعي، وصلتني مع بطاقة اهداء الى مكتب عملي، وتلألأت مقلتاي من شدة الفرح، وأخذتها للبيت، وضعتها في زاوية خاصة، أسلم عليها في الطالعة والنازلة.. أذابتني بابتسامتها المشرقة لشهور..
في ذلك الوقت، ولكي لا تموت زهرتي.. بحثت في الانترنت عن كل ما يخص زهرة الاوركيد.. قرأت في المواقع الاجنبية عن كيفية الاعتناء بها، سقيها، رعايتها.. الخ..
اكتشفت انها زهرة تنمو في الاماكن الرطبة، في غابات الامازون مثلا، ولا تنبت من الارض، انما تتشبث جذورها حول جذوع الاشجار، تزهر عدة مرات في العام، وتدوم ازهارها الشهر والشهرين..
قرأت الكثير، وحاولت التطبيق، لكن وردتي ماتت لأسباب لم أفهمها.. وشعرت بالاحباط الشديد..
اشتريت اوركيدة أخرى، وحرصت على أخذ التعليمات من بائعها، كيف اعتني بها واسقيها، وهنا تعلمت معلومة جديدة، وهي أنها يجب ان تكون في مكان مشمس، ولكن ليس تحت اشعة الشمس المباشرة، كما أن جذورها يجب ان تسقى مرة كل اسبوع او اسبوعين، لمدة عشر دقائق او نصف ساعة، ثم يتم تصفيتها، وقال لي أنه بعد سقوط جميع الأزهار، فعلي قص الساق مباشرة فوق العقدة الثالثة من اسفل النبتة، لكي ينبت برعم الساق الجديدة من هناك!
طبقت.. وفشلت مرة اخرى.. !
سألت جارتي فلانة التي لديها اوركيدات.. سألت صديقتي علانة التي تعتني بأوركيدات..
كلهن أجمعن على أن الامر سهل ولا شربة المية.. وأنه بديهي مثل دوران الكرة الأرضية.. وأنني حقا الحالة النادرة التي لا تفهم في الاوركيد والنباتات بصفة عامة!!
وفي احد البازارات.. مررت على بائعة كازاخستانية كانت تبيع انواع من الاوركيدات النادرة… كنتُ احوم حول اوركيداتها.. وقلبي يناديني لأشتري واحدة.. بينما عقلي يرفض بإحباط.. شجعتني البائعة على الشراء، فشرحت لها قصتي وتاريخي العريق في قتل الاوركيدات، وعدم قدرتي على العناية بها مهما حاولت.. لكنها أوضحت لي طرق العناية بالتفصيل المملللللل.. وأوضحت أن التربة (وهي ليست تربة انما اخشاب صغيرة تمتص الرطوبة) تحتاج لغمسها في الماء المغلي لقتل الميكروبات فيها اولا، ثم وضعها للنبتة بعد التخلص من الجذور الميتة..
طبقت.. وقصصت الساق بعد سقوط جميع الازهار.. وظللت اداوم على السقاء.. وانتظرت.. انتظرت.. انتظرت.. وأخييييرا خرج البرعم الصغير..
ياااااااااااااااه!
كانت فرحتي مذهلة.. وكأنني انجبتُ للتو طفلي الاول.. صرختُ وناديتُ كل من في البيت.. صرتُ اراقبه يوما بعد يوم.. واتابع نموه بذهول وشغف..
ثم..
بحركة بسيطة.. حاولتُ فيها بتعجل وغباء منقطعي النظير.. تعديل وضع البرعم الطري.. فانكسر!
انفطر قلبي.. وبكيت بحرقة على هذا الغباء بعد كل هذا الانتظار..
وقررت اعتزال الاوركيد 😢
بقيت عاما كاملا.. اتجنب كل محلات الاوركيد واماكن تواجدها..
لكنني في يوم من ايام الاكتئاب اياها.. (وما أكثرها).. كعادتي اتسوق بجنون (افش غلي يعني).. واجهتني واجهة محل كاملة من الاوركيدات.. نازلة طازجة للموسم الجديد.. هنا ألغيت العقل والقلب تماما.. علي وعلى اعدائي..
اشتريت 3 اوركيدات دفعة واحدة.. وكأنني مقبلة على علبة كاملة من جواهر جالاكسي..
ولحقت البقية الباقية من عقلي.. فسألتُ صاحب المحل على سبيل المجاملة.. هل من نصيحة؟
اعطاني نصيحة ثمينة.. اضافية.. بالاضافة لما اعرفه من معلومات.. وهو أن قص الساق يتم مباشرة فوق اول عقدة تقع اسفل اخر منبت زهرة في الساق، لأن جميع العقد التي اسفلها حية، ولا داعي لأقصها كلها لأصل للعقدة الثالثة من الاسفل!
والمعلومة المفصلية التي ذكرها لي..
ان اصيص الاوركيد يجب أن يكون شفافا.. لأن جذور الاوركيد تحتاج للإضاءة غير المباشرة لتعيش!
هنا فقط..
بدأت تتجمع خيوط جميع أخطائي وفداحاتي بحق الأوركيد..
هنا فقط.. بدأت أفهم..
أليست تنمو في غابات الأمازون على جذوع الاشجار؟ اذن فعلا لا يمكن دفن الجذور.. ولا وضعها في اصيص من الفخار!
كما انها تحتاج الى رش الماء فقط لريها.. لأنه الجذور تتغذى بامتصاص الرطوبة من الهواء.. وليس ملء الاصيص بالماء فتغرق!!
أخذت اوركيداتي الثلاثة هذه المرة بكل ثقة وأمل..
استمتعت بأزهارها لشهرين او ثلاثة..
ثم بدأ الاختبار الحقيقي.. سقطت الزهور كلها.. وقصصتها بدقة.. اسفل اخر زهرة في الساق.. وواظبت على رعايتها باهتمام وترقب..
وأخيرا.. وبعد 3 سنوات سابقة.. من التجربة.. والمحاولة.. والفشل.. وشيء من الاحباط وخيبة الامل.. والكثيييير من الصبر والاصرار..
نبت أول برعم.. حتى أخرج اول زهرة اوركيد من رعايتي انا 😄
ونبت ثاني برعم.. من الاوركيدة الثانية.. في طريقه لجيل آخر من ازهار الاوركيد..👍🏼
اخيييييييرا.. بعد كل هذه المعاناة.. كانت جارتي محقة.. وكانت صديقة لا تتفلسف..
الامر ابسط مما اتصور!!
حتى يمكنني ان اقول انه كان واضحا.. بديهيا منذ البداية.. واتعجب جدا لماذا عانيتُ كل ما عانيته لكي أجعل زهرة اوركيد تبرعم من جديد!!!!
الحقيقة..
ان كل ما مررت به مع زهرات الاوركيد يمثل كل التجارب التي نمر بها في حياتنا..
كل التجارب الفاشلة.. تصل بنا حتما الى مستوى معين.. من الفهم والادراك.. بحيث أننا يصعب بنا العودة الى الوراء.. حتى اننا ننظر الى فلانة.. التي يادوبها لسه داخلة الدوامة.. او التجربة التي مررنا بها.. فنقول في انفسنا: مسكينة.. ستمر بهذه التجربة!
يصعب بنا العودة الى الوراء.. حتى اننا نعتقد أننا لو عدنا الى الوراء لتصرفنا بطريقة أفضل.. او اخترنا خيارات أكثر حكمة.. في حين أنه لم يكن بالامكان التصرف بشكل أفضل ولا أكثر حكمة.. إلا بسبب ما تعلمناه من التجربة السابقة!!!
الفشل ليس فشلا في حد ذاته.. حتى وان بدا كذلك.. ولكنه طريق ما.. ليفسح المجال امام ما قد لا يفشل.. تماما كتجارب اديسون في اختراع المصباح الكهربائي.. والتي تجاوزت الألف تجربة.. فكان يقول: انا اكتشفت ألف طريقة لا يضيء بها المصباح!
لا يا شيخ؟ بالله عليك؟
يعني من اين جاء هذا الاخ بهذا القلب الجامد.. واليقين الصارم.. انه لم يفشل بعد.. بل هو في طريقه للنجاح؟
واحنا محاولة او محاولتين.. وبالكثير 3 محاولات… ثم تجلدنا نظرات الناس وابتساماتهم المشفقة او المتشفية.. قبل ان تجلدنا افكارنا المتقهقرة!
تجاربي مع الاوركيد لم تستمر بهذا الاصرااااار على مدى 3 سنوات الا لثلاثة اسباب:
1. أنني لم أستمع للتعليقات السلبية.. لأنه لم يكن هناك اصلا تعليقات… فلم يعلم أحد من حولي انني اجرب واكافح طوال ذلك الوقت.. كنت اشتري الاوركيدة.. وادير عليها تجاربي المهووسة في صمت.. فتموت وتنتهي.. دون أي تعليق.. وأحضر غيرها.. دون اي ملاحظة!
2. أنني بحثتُ في كل مرة عن معلومة جديدة… فكرة اضافية.. فلم اكتف بمصدر واحد فقط.. ولا بشخص واحد. المعلومات الاولية من النت، طبقتها كما هي بدون فهم.. لكن كثرة سؤالي.. واستفهامي.. وربطي للمعلومات.. جعلني اصل لمرحلة التطبيق مع الفهم.. وهذا شكل فارقا كبيرا في العناية بالاوركيد، مع الكثير من المتعة ايضا!
ولهذا السبب أوضح في بداية دوراتي لمتدرباتي.. انني لستُ المصدر الوحيد للمعلومة.. ولن أعطيهن كل ما يشتهين من المعلومات بالملعقة..
ما تريدينه بشدة.. عليكِ ان تبحثي عنه بشدة.. وما ترغبين في فهمه حقا.. عليكِ ان تبحثي عنه من أكثر من مصدر! نقطة.
3. والسبب الثالث.. وربما أقوى الاسباب جميعها:
أنني أحبها 😍
نعم.. أحببتها من كل قلبي❤
لم يكن من السهل علي أبدا أن أتخلى عنها.. ولم أتنازل عن ذلك الشعور بالانبهار لمجرد رؤيتها أو المرور بجوارها..
كانت بالنسبة لي حسناء لا يذوي جمالها..رمز للشموخ.. والتغلي.. وعزة النفس..
كان من السهل قول “لا” للفشل والهزيمة.. من أجل “نعم” كبيرة من الاصرار واعادة المحاولة!
You will easily say “No”, if you have a BIGGER “YES”.
فكان من السهل علي اعادة الكرة..
كثيرا ما تصلني استشارات: فشلت.. مليت.. زهقت.. حاولت.. تغير هو.. تغيرت هي.. اختلفنا.. انفصلنا.. الخ
وتمضي الحياة بصعوبة.. وأنفاس اعادة المحاولة تتردد بالكاد!
للاسف.. اغلب اسباب الفشل لدينا.. أنه لا توجد لدينا “نعم” كافية..
لا توجد “نعم” كبيرة.. صارخة.. حارقة.. تذبحنا كل يوم من أجل عيونها.. وعيون المتع التي ستأتي خلفها..
فتأتي كلمة “نعم” الصغيرة لحساب الاخرين.. ورغباتهم.. وطلباتهم.. وأحلامهم..
على حساب كلمة “لا” نقولها لهم.. لأجل رغباتنا.. وطلباتنا… وأحلامنا نحن!
أحبي شيئاُ من كل قلبك..
من أعماق أعماقك..
وأراهنك ألا تستيقظي كل صباح ليكون أول ما تفكرين فيه.. وأكثر ما تستمتعين بصحبته..
وأتحداكِ ألا تذللين كل شيء.. كل عقبة.. كل احباط.. كل هزيمة.. لأجل انتصارات وجوده.. ودفء القرب من تحقيقه..
هواياتك.. طموحاتك.. أحلامك.. أهدافك.. كلها تستحق منكِ أكبر عشق يمكن أن تحمليه في قلبك..
فمن السهل أن تكافحي بجنون..
لأجل عشق تتخضب به مشاعرك..
حتى ولو كان عشقا.. لزهرة أوركيد!
ما شالله جدا رائع وجميل..
نعم كبييرة لتلغي كل شيئ مستحيل بحياتنا..
اللهم انفعنا يا الله..
التكرار في الأخطاء ليس عيبا وحتى لوتكررت اكثر من مره بنهاية المطاف رح اتكون النتيجة ايجابية وما حد بتعلم الا اولها يخطأ
رائعة كالعادة أحمد الله أنه منحني نعمة معرفتك
اكثر من رائعة
مقال رائع كما تعودنا أ. خلود فعلا العمل بصمت من اهم العوامل المساعده على الاستمرار و سؤال اصحاب الخبره في نفس المجال
أستاذة خلود ضحكت عندما قرأت المقال فأنا لدي نفس المعاناة مع الأوركيدات
بعد كم محاولة استسلمت و لكن تشجعت الآن للتجربة من جديد ❤
مقال رائع جدا سلمت يداك
فعلا نحن نستسلم للفشل بسرعه ولكن انا مثلك أقف ثم اعود الكره تانية ولكن بعد وقت طويل وتفكير لماذا فشلت ماذا فعلت سابقا لافشل وأعيد الكره تانيةً فأنجح نعم الإصرار… اقرئي المزيد »
مقال رااائع أستاذة خلود والله أنك حطيتي يدك على الجرح عطيتيني دافع أني أكمل أمر بفترة جد محرجة فشلت في مسابقة مصيرية أعددت لها بجد وإجتهاد حتى موضوع الإنجاب أجلته… اقرئي المزيد »
الله يسعدك ويوفقك يا حليمة.. لا تؤجلي الانجاب لأجل المسابقة.. الاطفال استثمار طويل الامد لا ينتهي الى يوم القيامة..
اسأل الله ان يوفقك في كل ما تحبين 🙂
سلام معطر بأريج الأوركيد المتميز ومساؤك جميل كما جمالها عزيزتي خلود. كما هي العادة متميزة متألقة سلسة ودقيقة في تناولك لمواضيع تثري بها خبراتنا وتغني بها معرفتنا لهذه الحياة التي… اقرئي المزيد »
أحترم واقدر كل معلمة وكل امرأة تحب ما تقوم به..
قد يكون متعبا نعم.. قد يكون منهكا اكيد.. ولكن ان تستمتعي بكل لحظة.. هذه سعادة حُيزت لك 🙂
فعلا عودا حميدا و مقال رااائع
ضحكت كثيرا من محاولات قتلك للاوركيدات السابقات صحيح انهم ثلاث اسباب للاصرار والنجاح: عدم الالتفات للسلبيات، عدم الاعتماد على مصدر وحيد للمعلومة والحب لكن من وجهة نظري الحب أقوى دافع… اقرئي المزيد »
اضافتك رائعة عزيزتي لينة جزاك الله كل خير ❤