((يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ))
الحديد (14)
***
التسويف والتأجيل..
مشكلة عويصة لدينا نحن النساء..
لدينا مهارة عجيبة في الانشغال بكل شيء من سفاسف الدنيا..
الانشغال بالأسواق..
الانشغال بالطبخ..
الانشغال بالميك اب والموضة..
الانشغال بقرقرة الموبايل..
الانشغال بمجالس النساء الخنفشارية..
الانشغال بالحفلات والأعراس والعزائم والمناسبات..
والانشغال بتحديث حسابات انستقرام وفيسبوك وسناب بصور الانشغالات أعلاه!
أجلس مع فلانة..
تتحدث طوال الوقت عن مواهبها المدفونة تحت ركام ابنائها..
فإذا أوجدت لها الحلول لإخراج هذه المواهب مطت شفتيها تقول: ما في وقت!
أتناقش مع علانة..
تشتكي وتتذمر أنها لا تستطيع تحقيق طموحاتها في الحياة..
تتراكم عليها المسؤوليات والعزائم والمناسبات.. وهي تتحسر..
فإذا قدمتُ لها أفكاراً عملية للإنجاز وسط هذه الانشغالات..
هزت رأسها باستخفاف: ان شاء الله.. ربك كريم!
لدينا مقدرة نسائية خارقة..
في الجمع بين جميع أنواع الشكوى والتذمرات..
وعدم تحريك ساكن.. أو تغيير حال!
بدعوى: إن شاء الله…
يوماً ما..
بس أتخرج..
بس أتزوج..
بس يكبروا الأولاد..
بس أضعف..
بس أدرس..
بس أفضى..
بس تنتهي مشاكلي..
بس أستقيم..
بس يهديني ربي!
نتحدث بكل أريحية.. وكأننا نملك السنوات القادمة..
في حين أننا.. قد لا نملك اللحظات القادمة!
وغرتكم الأماني.. حتى جاء أمر الله..
***
قبل عدة أيام..
ماتت فلانة.. وهي حامل في الشهر الثامن..
ماتت فجأة.. بعد أن تعبت قليلا.. وذهبت للمستشفى!
وهذه الفلانة..
كان لديها من الطموحات ما لديها..
لديها من الأحلام.. والآمال.. والمشاريع.. والمخططات..
بعد ولادتها..
لكن..
كان الموت أعجل!!
بالأمس.. زرتُ فلانة.. كبيرة السن.. خرجت من عملية جراحية مؤلمة..
لديها من الأبناء خمسة..
كلهم يلهث خلف دنياه..
هذا سياحة مع زوجته في أمريكا..
وذاك يبني مسبحاً في حديقة منزله..
وتلك لا تريد دخول البيت لأنها متخاصمة مع أبيها..
ورابعة مشغولة مع أولادها ووظيفتها..
خمسة من الأولاد.. ما افتقدها أحدهم..
يظنون أن البر “ملحوق”..
نسأل عنها غداً.. أو بعد غد!
وهي تتحدث بقهر وسط دموعها..
سأبيع كل شيء.. سأبني مسجداً..
سأضع كل مالي في الجمعيات الخيرية..
حتى لا يرثوني هؤلاء العاقّون!
تبكي وتتوعد كل يوم..
وما باعت.. وما بنت.. وما تصدقت..
تنتظر ربما أشفق على حالها أبناؤها يوماً!!
أما فلان.. فمات وحيداً وترك خلفه مئات الملايين..
فورثه ثلاثة من أقربائه الأباعد.. بالكاد يعرفونه..
جاءوا لاستلام الإرث من القاضي وهم لا يصدقون..
والقاضي يسألهم: هذا المال ساقه الله إليكم بلا جهد..
فهل تتصدقون بجزء منه عن صاحبه الذي مات!
فتلكؤوا.. وتعذروا.. حتى قال أحدهم:
يا شيخ.. اللي ما فيه خير بحياته.. ما فيه خير بعد موته!
ما فيه خير بعد موته..
وغرتكم الأمانيّ حتى جاء أمر الله!
***
من السهل أن نتعبد الله في رمضان…
الكل يتعبد..
كل عبادات رمضان جماعية..
كلنا يرتل القرآن ويقرأ الأذكار..
كلنا يصوم ويحرم نفسه البطن واللسان..
كلنا يصلي التراويح ويقيم الليل ويتحرى ليلة القدر..
طاقة وشحنة هائلة للجميع لكي يشمر ويجد ويجتهد..
كلنا نتنافس.. ونتسابق.. ونشجع.. ونحفز..
مع الجماعة..
لكن الاختبار الحقيقي..
يكون بعد رمضان..
بعد أن ينفض الشهر..
وتنتهي الدورة الربانية المكثفة..
ويعود كل إلى حاله..
ويختلي كل شخص مع نفسه..
هذه اللحظة..
هي اللحظة الفارقة..
ما بين الاستمرار.. أو التسويف..
ما بين الصدق مع الله.. أو أن نتّبع الغَرور..
هي لحظة الاختبار الحقيقي..
هل كان صيامنا وقيامنا ودعاؤنا واذكارنا..
لله وحده؟؟
أم هي مظاهر.. أمام الناس..
يفعلون فنفعل..
صاموا فصمنا.. قاموا فقمنا.. قرؤوا القرآن.. فقرأنا!!
ما بعد رمضان..
بإمكانه أن يكون لحظة ولادة جديدة..
بداية فريش..
نقطة تحول 180 درجة..
شهادة تخرج.. من محراب التوبة والإخلاص والتغيير..
لننطلق في رحاب الـ 11 شهراً القادمة..
نعمل بهذه الشهادة.. فيما استخلفنا الله في أنفسنا وما لدينا..
وما بعد رمضان..
بإمكانه أيضا أن يكون كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثاً..
كالذي نكص على عقبيه..
تسليم للنفس.. لكل أنواع الأماني والتسويف والتأجيل..
غداً أصلي بخشوع..
غداً أقيم الليل..
غداً أتصدق..
غداً أتدبر القرآن..
غداً أصل الرحم..
غداً أحاسب نفسي..
غداً أسارع للخيرات..
غداً.. غداً.. غداً..
وغرنا بالله الغَرور..
غرنا.. حلم الله علينا..
غرتنا.. أعمالنا.. وصيامنا وقيامنا..
فخرجنا ننفض أيدينا.. وكأننا نحن من بشرنا أنفسنا بأننا مغفور لنا!
في كل مرة يبتلينا الله..
في كل مرة نذوق حلاوة القرب إليه.. في مواسم الطاعات..
عمرة.. حج.. رمضان.. عشر أواخر.. عشر ذي الحجة..
مجلس ذكر.. صحبة صالحة.. توبة نصوح..
نغتر بحلم الله علينا.. فنؤجل ما كنا عاهدناه عليه..
نؤجل عبادات وطاعات..
نؤجل انجازات وطموحات..
نؤجل ما استخلفنا عليه!
وغرتكم الأمانيّ….
***
طوال عمري.. كنتُ أقرأ سورة الحديد..
فأجدها ثقيلة.. كثقل الحديد..
كل السور التي سبقتها خفيفة.. إيقاعها قريب لنفسي..
الواقعة..
الرحمن..
النجم..
الطور..
القمر..
ثم تأتي سورة الحديد.. بإيقاع مختلف تماماً..
وكنتُ أتساءل عن السر في هذا الاختلاف..
حتى قرأتُ هذه الآية اليوم..
آية التسويف والتأجيل..
ثم قرأتُ ما بعدها..
فوجدتُ رحمة الله.. تغمرني.. وهو يضع كل الحلول الممكنة..
وكل التذكرات الرقيقة..
لعلاج هذا التسويف والتأجيل:
1. الإكثار من ذكر الله.. وتدبر القرآن:
((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ))(16)
حتى نتجنب قسوة القلب:
((وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ))(16)
2. الصدقة.. بكل أنواعها.. المادية والمعنوية.. تعود إلينا مضاعفة!
((إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ))(18)
3. الزهد في الحياة.. لأنها ليست الدار الحقيقية..
((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ..))(20)
هي إما مزرعة للآخرة.. أو ملعب للشيطان ليغرر بنا!
((..وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ))(20)
4. المسارعة والبدار الى التوبة والاستغفار.. من رب غفور رحيم.. وذو فضل عظيم!
((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا..))(21)
5. المصائب تنزل لحكمة من الله:
((مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ))(22)
فالصبر على المصائب والتوازن في مشاعرنا مطلوب.. فلا نفرح على موجود.. ولا نحزن على مفقود:
((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ))(23)
6. الإنفاق.. والدعوة إليه.. لأن البخل لن ينقص من ملك الله شيئاً!
((الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))(24)
7. وأخيراً.. تأتي آخر السورة فتبشر هذه الفئة التي عالجت التسويف والأماني بالنور التام:
((يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))(28)
***
والغريب.. أن الدعوة للإنفاق.. والصدقة.. وتجنب البخل.. تكرر في هذه السورة خمس مرات..
خمس مرات.. في سورة من 29 آية !!
وبداية السورة.. يتكرر لفظ ((لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) مرتين!!
وكأنها دعوة.. للتخلص مما في أيدينا.. لأنه أصلاً ليس ملكاً لنا..
وكأنها دعوة.. لنصدق العهد مع الله..
فنسارع في الانفاق مما لدينا..
مما نعرف من علوم.. ومما نتميز من مواهب.. وما نتقن من قدرات.. ومما يجري في أيدينا من أموال..
مما نستطيع من تربية صالحة.. من تقديم قدوة حسنة.. من تواصل إيجابي.. من سلوكيات إسلامية..
ننفق اليوم… لأنه اليوم فقط يتقبل..
ولأننا لو سوّفنا.. وبخلنا بما لدينا.. وغرتنا الأمانيّ.. وغرنا بالله الغَرور..
سيأتي اليوم الذي لو أردنا الإنفاق بملء الأرض.. فلن يُتقبل منا:
((فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) (15)
والمؤلم..
أن مظاهرنا لن تخدعه..
وأعمالنا لأجل الناس لن تنطلي عليه..
لأننا بمجرد أن نختلي بأنفسنا..
يتميز الصالح والطالح منا..
يتميز الطيب والخبيث فينا.
يتميز الصادق والكاذب بيننا..
فمنا من يكون حاله في خلوته:
وعجلت إليك رب لترضى.. ويسارع في الخيرات..
ومنا من لسان حاله:
غرنا حلم الله بنا.. فغرتنا الأماني.. واثّقالنا للأرض!
وذلك فضل الله.. يؤتيه من يشاء..
فلنكن أهلاً لهذا الفضل..
ولنقرأ سورة الحديد.. بنية علاج التسويف..
عسى أن ننفق الآن مما استُخلفنا فيه..
فيسعى نورنا بين أيدينا.. غداً بين يديه!
(شاركي بالتعليق في الأسفل أو على صفحة الفيسبوك: بخاطرة.. او تجربة.. أو قصة.. حول الآية المختارة.. لتحصلي على فرصة الفوز في مسابقة “ربيع قلبي ❤”)
لأول مرة فى حياتى يصلنى هذا المعنى فلقد اشتهرت بالتسويف فى كل كل شيء بمعنى الكلمه ومازلت ابحث عن حل لهذه الحاله التى تاكل منى يوما بعد يوم ولكن بفضل… اقرئي المزيد »
مقال رااائع
لا أجد عندي أي إضافة
اللهم أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك
دائما وابدا تجد من ينفق المال ويجود بوقته محبوب من الناس ومن قبلهم الله سبحانه وتعالى
يصدق قولك اختي خلود هذا الحديث الذي خارجه الترمذي بسند حسن: قال صلى الله عليه وسلم” إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل… اقرئي المزيد »
(ينادونهم الم نكن معكم)كم هي مقلقة هذه الاية نمضي حياتنا مع الصالحين و بصحبتهم،حتى اننانتمتع بهيئة الصالحين ثم يو م القيامة يكون مآلنا غي مأل الصالحين يا رب رحمتك و… اقرئي المزيد »
(وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) وفي آية أخرى (فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس) متى ينشرح صدورنا للأعمال المجزية وعدم تأجيلها؟؟!! عندما تكون نابعة من القلب❤ من… اقرئي المزيد »
مممم جميل جدا استاذة ،، التسويف داء يترك التراكمات وعند حدوث التراكمات قد تصعب الحلول ، لذلك الله تعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء… اقرئي المزيد »
اللهم اقبضنا ع كلمة لا اله الاالله واجعل آخر عدهنا في هذه الدنيا الصلاه حقا استاذتي ياربت تستمر مسابقة ربيع قلبي لانها تساعدنا في التدبر بكتاب الله دون اي مجهود… اقرئي المزيد »
تتبخر الكلمات والعبارات هروبا من قلمي بعد هذا المقال مشاء الله عليك أستاذة خلود، المميز في كتاباتك أنها ليست روتينية بل متجددة وتلامس الواقع وتفتح أبواب القلب جزاك الله خيرا… اقرئي المزيد »
السلام عليكم لك كل الشكر على الجهد الذي تضعينه في هذا التدبر للقران الكريم لدي امنية بان تزويدنيا ببعض النصائح لكي نتابع قراءة القران بهذا التدبر بعد رمضان مثلا اسماء… اقرئي المزيد »
جميل سؤالك حبيبتي وكنت طرحته على نفسي ،، ووجدت كتاب جميل في هذا …مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة للدكتور خالد بن عبد الكريم اللاحم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله والله يا استاذة فتحتي عليّ ابواااااااااب كنت قد فتحت بعضها واغلقت بعضها ، افتح واغلق هكذا في مشاغل الحياة ، كل… اقرئي المزيد »
مشاكلت التسويف والانشغال باملهيات الحياة فعلاً تتعبنا وتبعدنا عن التدبر والحكمه من وجودنا في الدنيا وكان رمضان يأتي كل سنه ليصحي من ما قد نام ونسي مهامه الأساسيه في الحياة… اقرئي المزيد »