كان خدها الناعم يجد مستقره في أحضاني بنهاية يومها.. أشعر بانسيابية شعرها المتناثر كل ليلة.. ودفء أحلامها.. المتوهجة.. تركض.. باستمرار تركض.. بين حقول.. على شواطئ.. على ضفاف الأنهار.. أسمع ضحكاتها البريئة بوضوح.. تتطاير كنسمات الصباح الباردة تنعش الروح..
ذات مرة.. أحضرت مصباحاً صغيراً بجوارها.. ودفتراً جميلاً زينت غلافه بملصقات قلوب.. أسندت مرفقها علي.. وهي تكتب لأكثر من ساعة.. وأنا أحاول أن اشرئب بعنقي.. لأرى..لم أستطع.. سمعتُها وهي تكتم شهقاتها.. وصوت أنفها وهي تمخطه باستمرار.. انتظرت حتى وضعت خدها في حجري.. كعادتها.. وغرقت ثيابي بدموعها..سالت بصمت… لكني شعرتُ بحرقتها.. رأيتُها وهي تسقط في أعماق بئر.. تصرخ دون جدوى.. صمّت آذاني صرخاتها.. وأنا أحاول تهدئتها..
استمرت.. تكتب.. وتبكي.. وتحتضنني.. عدة ليال.. بل شهور.. بل سنوات.. كان ذاك الدفتر صديقها.. بوح فضفضاتها.. ولا أدري لماذا كان تأتمنه على أسرارها من دوني.. كان هو وعاء أفكارها.. وأنا وعاء دموعها..
انقلب حالها فجأة.. عادت لها الضحكة.. احتضنتني بقوة.. لأول مرة بعد طول عناء من نحيبها.. كانت جذلة.. فرحة.. سعيدة.. تكتب في ذاك الدفتر بحماس.. ثم تسند رأسها.. وتشاركني أحلامها.. ترتدي ذاك الثوب الأبيض الفضفاض من الشيفون والحرير واللؤلؤ.. وتنظر بابتهاج له.. تحتضن كفيه.. وهي تجري بجواره.. بين الحقول.. على شواطئ.. على ضفاف الأنهار.. عادت لتركض من جديد.. عادت ضحكاتها البريئة التي ذكرتني بنسائم الصباح وهي تتسلل من النافذة.. كانت سماؤها مليئة بالقلوب الحمراء.. والشموع الساحرة.. تتأرجح على أرجوحه تتدلى من السماء.. تصنع من النجوم تاجاً يزين رأسها.. إنها تعيش قصة حب.. ترويها لي كل ليلة..
رويداً.. بدأت تقتضب حديثها.. وتختصر من روايتها.. حتى لاذت بالصمت المطبق.. لكنها عندما تريح خدها علي.. تفضحها أفكارها الحزينة.. حائرة.. تائهة مترددة.. تتساءل: لماذا تغير؟ لماذا لم يعد يهتم؟ أين أخطأت؟
تارة تعود إلي.. وهي مبتسمة تضحك.. سعيدة أنها يحبها.. وجاءها بهدية.. وتارة تعود إلي.. وهي غاضبة.. مشوشة.. حزينة.. لأنه أهملها.. أو انتقدها بكلماته الجارحة..
كانت تنوء في كل ليلة.. بسبب الحموضة.. او الغثيان.. حتى وضعت طفلها الأول.. ليضوج عقلها كل ليلة بنفس التساؤلات.. تشتاق إليه.. للمساته.. وسهرها بجوار رضيعها يستهلك طاقتها..
ذات ليلة.. بكت بكاء مريرا.. أغرقني تماماً.. وددت لو أني أضمها داخل صدري أكثر.. وأقول لها أن كل شيء سيسير على ما يرام.. لكن شهقاتها شقت مسامعي.. وهي تلكمني.. وتفرغ غضبها في جسدي.. كانت صدمة لي.. صدمة لم أستطع معها مغادرة المكان لأحتفظ بكرامتي.. لكنها استمرت.. تبكي بحرقة.. وتصرخ: لماذا؟ لماذا؟ كيف يفعل بي هذا؟ كيف يخونني وأنا زوجته؟؟؟
صارعتني حتى تهالكت.. وتصارعت أحلامها مرة أخرى.. كل ليلة.. نفس الأحلام.. تغرق في محيط.. في دوامة كبيرة.. تجذبها للأسفل.. كانت تقاومها في بداية حلمها.. حتى بدأت تستسلم.. ولم تعد تبدي المزيد من المقاومة.. كنتُ أشاهدها وهي تستسلم بذهول لذاك التيار.. وهو يسحبه معها.. لم تعد تأبه.. لم يشكل لها فارقاً.. فقد فقدت رغبتها في الحياة..
صارت تسند رأسها علي.. بلا ضحكات.. ولا ابتسامات.. ولا أفكار..
بلا روح..
لم أستطع أن أفعل شيئا.. سوى منحها الدفء والأمان اللذان اعتادتهما كل ليلة.. دموعها المختلطة بأصباغ المكياج كانت تلطخني.. لكني استقبلتها بصمت العاجز.. ابتسامتها المفتعلة.. وهي تحاول التظاهر بأن كل شيء سيكون على ما يرام.. وتكرر بأن غدا.. سيكون أفضل.. كانت نكتة سمجة.. لم تصدقها هي نفسها..
جسدها المتهالك..
روحها المتعبة..
أفكارها القلقة.. حول الأولاد.. الطبخ.. الزيارات.. تنظيف البيت.. المساعدة في الواجبات.. المجاملات.. التجريح.. الوظيفة.. العمل.. الذهاب والإياب..
كانت تضع رأسها بنهاية كل ليلة… خاوية على عروشها.. وقائمة طوييييلة من اللوم والعتاب وجلد الذات..
ليتني قلت.. ليتني فعلت.. ليتني تغيرت.. ليتني وليتني.. ثم يبدأ مسلسل الأحلام.. وكله مطاردات..!
ذات ليلة.. توقفت عن البكاء.. ابتسمت ابتسامة مشرقة صافية ذكرتني بابتسامتها قبل ٢٥ عاماً.. كانت تقرأ كتاباً.. كل ليلة.. ثم ترفع يديها.. وتتمتم بكلمات.. ثم تمسح وجهها فيرتخي كل شيء فيه.. كانت تقرأ كتباً كثيرة.. تارة تضحك.. وتارة تغضب.. كانت تتصل بصديقاتها تتفق معهن على مكان الالتقاء يوم الغد.. كانت تطقطق بموبايلها كل ليلة.. تصبغ أظافرها باهتمام.. أو تستمع لمحاضرة ما.. تضيء شمعة.. وتشرب فنجان قهوة.. تتأمل في السقف بهدوء.. تمد رجليها فتقوم ببعض التمارين.. أو تكتب في دفترها بعض الخواطر والأشعار.. تدهن يديها وقدميها بكريم معطر.. أو تتغزل في إصيص الورد القابع أمامها..
بقيت على ذلك شهورا.. لا بل سنوات..
وفجأة.. جاءتني تضحك.. وقبّلتني على جبيني حتى احمرت وجنتاي..
همست: أشكرك.. أشكرك لأنك تحملتني كل تلك السنوات.. أشكرك لأنك كنت معي.. تسمعني بصمت.. وتتقبلني كما أنا.. أنت كنت مرآتي الصامتة.. التي أرتني نفسي.. فلم تنتقد أو تجرح.. بل احتوتني بكل حب.. وفي كل مرة كنت تعكس بوجهي روحي الجميلة.. كنت أتنكر لذاتي.. وأغرق في دوامة البحث عني في مكان آخر..
أراحت رأسها علي..
كان خفيفاً.. خفيفاً جداً.. احتضنت نفسها.. وغرقت في أحلامها وهي ما تزال بين ذراعيها..
كانت تغرق في المحيط.. مستسلمة للتيار.. حتى وصلت القاع..
ثم وقفت بهدوء تتأمل حولها..وانحنت تلتقط لؤلؤة.. ثم لؤلؤة أخرى.. ثم ثالثة.. ورابعة.. وأخذت تنسج من اللآليء ذيلا يزين ثوبها الزاهي.. وأخيراً بدأت تسبح في هدووووء.. صاعدة للأعلى.. حتى خرج وجهها فوق السطح.. ونظرت للسماء.. ممتنة!
وعلت وجهها ابتسامة رضى.. وهي تعيد احتضان نفسها بقوة..
وتهمس لي وسط أحلامها:
أحبك.. يا وسادتي!
يااااااااه جميله جدا لامست دواخلي حتي ابكتني ولم استطع ان اتوقف عن البكاء
بتجنن رائعة …
تسارعت ضربات قلبى و انا اقرا كلماتك الرائعة كيف استطعت ان تخترقى داخلى و تعبرين عن ما اشعر به كلماتك حقا اكثر من رائعة شكرا لك و بارك الله فيك… اقرئي المزيد »
رااااااااااااااااااائعة .. يمكنني القول أنني في منتصف الطريق يا “وسادتي”,, تحمليني قليلاً أكثر ,, اقتربنا عزيزتي ^_^
ذكرتنى طريقتك فى الكتابه بنفسى تماما ….
نفسى القديمه
..نفسى التى افتقدها كتيرا .
واضحكتنى فى النهاية كالعادة ضحكة تعجب !!! وفرح مزوج بفخر وثناء
جميييييييييييييل جميييييييييييييل جمييييل…
وأنا اشكرك جدل جدا جدا من كل قلبي أ.خلود
لك كل الحب والود والاحترام
مقال ررررائع وخيالك واسع تساعدي القارئة لاتساع خيالها …وجمال التعبير ربنا يوفقك دائما
أريد الاشتراك بدورة غدا ان شالله
بارك الله فيك وفي الانامل التي خططت حروفا يملؤها الحب.بكيت مع القصة لأنها لامست جزءا من ذاتي. ولكنها انارت بصيص الامل في حياتي.اشكرك اميرتي
مااجمل العودة الى الذات سلمت اناملك
تعبيراتك دوما رائعة ما أجمل حب الذات
سلمت يداك أستاذة خلود
استاذة خلود مااجملك استمتعت جدا وانا اقرأ المقال كانك اخرجت الأنثى المجروحة التي في داخلي التي لم تستطع التعبير عن المها الا بصمت ليتني أستطيع تجميع لآلئ حياتي وأعيد صياغتها… اقرئي المزيد »
اكثري من مقالاتك المبدعة
أستاذه خلود قد لاتصدقي أن هذه قصة انسانه عايشتها معها بكللل تفاصيلها صاحبتها وعرفتها ولله الحمد عدت كلللل تلك الآلام وتغلبت عليها وبدأت بدايه جديده بعد أن أفرغت كوبها وودعت… اقرئي المزيد »
أستاذة خلود
كيف استطعتي أن تغوصي في أعماقي و تكتبيني بهذا الشكل !!
سلمت تلك الأنامل التي خطت فأبدعت ❤️
كم عجزت المرآيا من تحولاتها النفسية .. انفصامها المتكرر .. بين نحيب موجع .. او ضحكات تطاول السماء .. بين سخطها ورضاها .. .. .. اشفق عليها .. واشفق علي… اقرئي المزيد »
جميلة جداً، تشبه شيئاً ما مرّ علي منذ فترة قريبة لا أستطيع تحديده بالضبط ^_^
اكملت للنهاية مستمتعة جداً، ما شاء الله عليكِ وعلى اسلوبك
تلك هي رحلة العودة،،،،،،،،العودة للأنوثة، مشكورة عزيزتي،
جميل جداً ،تلك الكلامات والتشبيهات التى اخترتها ،تدخل القلب وتدغدغ الفكر ..اعجبني اختيار كلماتك رغم اني عرفت منذ البداية انها الوسادة ولكن اُسلوب التشويق جعلني اكمل القرّاءة لم أكن اريد… اقرئي المزيد »
مقال مشوق رااااائع…. سلمت يداك بارك الله فيك..ولنبحث عن الاشياء الجميلة الممتعة البسيطة من حولنا والتي نجد فيها ذاتنا، لخصتي لنا بعضاً منها في الجزء الاخير كاصدقاء.. كتب لحظات استرخاء… اقرئي المزيد »
يااااااااالله يا أستاذة فعلا هي ملجؤنا بحق تلك الوسادة الصامتة كم تسمع منا ونشتكي لها كم تحمل بين طياتها بقايا دموعنا التناثرة في لحطات الضعف والضياع ما أحوجنا في حياتنا… اقرئي المزيد »
ماأجمل روحها المشرقة…وماأصعب كسرة قلبها أرى انها في حب زوجها قبل الخيانة كانت تشعر باتساع الدنيا ونورها ..وبعد خيانته ايقنت ان الدنيا لاتساوي جناح بعوضة مقال ممتع استاذة خلود بارك… اقرئي المزيد »
كم جميل ان يحب الانسان نفسه ويعتني بها وينهض بها عندما تهوي إلى القاع ليعلوا ويرتقي بذاته. حب بدون انانية ولا نرجسية
أحبك يا انا
اللهم باركالله على الروعة و الجمال و الخيال المبدع ❤جميل هذا التشويق الرائع الذي يلخص المقال بآخر كلمة منه.أحببت الرسالة
جميل جداً. كم نحن بحاجة إلى هذه المرآة و لنتعلم اصطياد لآلنا الثمينة.
ابدعتي استاذتي فطريقتك بالانشاء والكتابه مدهشه……. ارجو من الله ان يفتح لي ابوابا لابدأ انا ايضا بالتقاط الآلئ….. لؤلؤة تلو الاخرى
عندما وجدت لك مقالا جديدا..طازه يعني..ارتسمت ابتسامة على شفتي..وبعدما انهيت المقاله ابت ان لا تفارقني..اسعد الله قلبا انت صاحبه..