عمرك ١٣ عاماً..
تتوسدين لأول مرة في حياتك أرضية خيمة قماشية.. ملتصقة بجوار أمك وأختك وقريبة لك..
كنتن أربعتكن متكورات داخل الخيمة.. كمحطة مؤقتة في طريق سفركن البري إلى مكة لأداء فريضة الحج..
الرجال بالخارج.. توسدوا الحصائر.. والتحفوا السماء..
عندما صدح أذان الفجر من مسجد قريب..
أطللتِ من باب الخيمة.. وداعبت وجهك نسائم الفجر..
وتسللت إلى أنفك وخلايا بشرة وجهك مشاعر ظلت محفورة في ذاكرتك حتى هذه اللحظة..
السماء الصافية التي تناثرت فيها حبات النجوم..
السكون الذي تدغدغه أصوات الأقدام بين حبات الرمال..
صوت الماء المتساقط من أعضاء الوضوء..
همسات الناس الخجلى من مهابة هذه التوليفة الربانية وسط الصحراء!
كانت تلك اللحظة من اللحظات التي شعرتِ أن الزمن توقف فيها كثيرا..
كثيراً..
لحظة أبلغ وأجمل وأروع من جميع فلسفات خلود في مقالها: عيشي الوتيرة واستمتعي..
لم تكن مناسك الحج قد بدأت بعد.. لم تري أي من الصعوبات والمشاق بعد..
لكن جميع تلك الصعوبات والمشاق التي عايشتيها في الحج بعد لحظات الفجر خارج تلك الخيمة…
كانت أشبه بنزهة.. ومغامرة ممتعة.. استمتعتِ بكل تفاصيلها..
عمرك ٣٥ عاماً..
كنتِ في خيمة أخرى.. هذه المرة على صعيد عرفات..
الخيمة هذه المرة تتسع لمئات النساء..
وكنتِ تعانين المرض.. وضيق التنفس.. والحر الشديد..
كان ألم الوحدة لا يُحتمل رغم فساحة المكان..
وحدة فقط؟
كان ألم الوحدة والخذلان.. ألم القهر ووحشة القلب وغصة الحياة..
عندما كنتِ طفلة.. كانت لحظات الفجر خارج خيمة صغيرة أشبه بتطعيم وقائي..
جعلكِ تخوضين جهاد الحج بكل تفاصيله.. وسط أشد شهور السنة حرارة..
وكأنكِ تخوضين نزهة جميلة بجوار البيت.. وسط الحشائش والأزهار..
لم تكن لديكِ الكثير من الطلبات أو الدعوات الملحّة..
لم يمتليء قلبك بحقد ما.. أو حسرة ما.. أو غضب ما..
لكنك الآن بعد أكثر من ٢٠ عاما..
مررتِ بالكثير… وتمرّر قلبك بالكثير!
تنظرين للنساء المتناثرات حولك.. وكأنكِ تبحثين عن خيمة صغيرة تضم جسدك داخلها..
تتخيلين حجم المشاق والأهوال التي خضتها من أجل هذه اللحظة بالذات..
على صعيد عرفات..
لتسكبي العبرات.. وتنهالي بالدعوات والطلبات..
وبسبب الحر.. والمرض.. والوحدة.. والألم..
تجدين نفسك عاجزة!
هنا.. تزحفين كمحاولة أخيرة..
قبل غروب الشمس بساعة..
تجربين أن تخرجي خارج الخيمة الخانقة.. لتستظلي خلف زاوية..
تتذكرين لحظة الفجر تلك.. وأنتِ طفلة.. قبل الوصول إلى عرفات..
وتهب الآن نسائم الغروب في عرفات.. تداعب ذاكرة وجهك وأنفك..
يا إلهي كم استغرق وصولك إلى عرفات دهراً من عمرك..
كم استغرق من تجارب حياتك انتقالك من تلك الخيمة إلى هذه الخيمة..
من حالة البراءة واللاحاجة..
إلى حالة الخضوع.. والذل.. والعجز.. والفقر بين يديه سبحانه!
ثم تكتشفين..
أن تلك النسائم لم تكن تداعب وجهك فقط..
إنما داعبت قلبك.. عندما قررتِ أن تزحفي خارج كل الهموم التي كبلتك..
قررتِ أن تزحفي من دائرة زوجك وأولادك..
دائرة أهلك.. أقربائك.. صديقاتك..
وظيفتك.. مالك.. أملاكك.. شهاداتك..
ارتباطاتك.. التزاماتك.. اهتماماتك.. رغباتك..
دوائر كثيرة تقاطعت وتنافرت في حياتك..
شدتك وحاصرتك وطوقتك كأمواج المغناطيس حولك..
كنتِ حبيسة لها.. وتحت سياط الخوف منها.. أو عليها!
تكتشفين..
أن ما كان لنسائم عرفات أن تهب على قلبك..
قبل أن تقرري أن تحرريه من كل الدوائر..
تحرريه؟
لم يكن تحريراً سهلاً..
بل كان انتزاعاً..
تنتزعي قلبك من كل الدوائر..
فيصل لاهثاً.. أشعث أغبر..
بعد رحلة شاااااقة.. خارج حدود كل تلك الدوائر..
رحلة بدأت بقلب صغير.. بض.. طاهر.. لم يحمل حقداً ولا غلاً على أحد..
فكانت رحلة الحج كنسائم الفجر الأولى..
وتنتهي اليوم.. بقلب حر.. تحرر من كل دوائر همومه..
ليعود ذلك القلب البض.. الطاهر.. الذي لا يحمل حقداً ولا غلاً على أحد..
يريد فقط ما عند الله..
يريد أن يلج بقدميه.. ويديه.. وأسنانه.. وكل كيانه..
إلى دائرة واحدة..
دائرة الله..
بتوبة نصوح.. ودعوة صادقة.. ودمعة حارة..
كللللل الدوائر… تركتِها خلفك داخل تلك الخيمة..
وخرجتِ الى صعيد عرفات..
على ترابه..
أمام شمسه التي تغرب أمامك..
مسلمة نفسك.. وكل خلايا عقلك وجسدك..
لرب واحد.. رب الدائرة التي تريدين الهجرة إليها..
تفرغين كل شيء.. كل شيء..
ترفعين صوتك بالدعاء.. بكل شيء..
وتسكبين دموعك.. وحدك.. لأجله وحده.. لا شريك له!
فتمر الأيام.. والشهور.. والسنوات..
وقد استُجيبت دعواتك كلها..
وفي كل دعوة تتحقق أمامك..
تتذكرين تلك الهجرة الخالصة لله وحده سبحانه..
وتتذكرين أنها هجرة بلا تذكرة عودة.. ولا مراكب رجعة..
وأن دوائر البشر والأشياء التي كبلتكِ وأثقلتكِ وحاصرتكِ يوماً..
أصبحت لا تملك أن تملك مشاعرك..
لا أفراحك.. ولا أحزانك..
لا سعادتك.. ولا تعاستك..
هي هجرة واحدة.. مرة بالعمر..
لكنها تتكرر كل عام..
كنوع من تجديد الاشتراك..
وهو اشتراك لا يتطلب التواجد على صعيد عرفات..
لأن من ذاق طعم تلك الهجرة يوماً..
يسهل عليه أن يهاجر في أي بقعة على وجه الأرض..
هجرة بلا جواز.. ولا حقيبة سفر..
هجرة قلب..
يتحرر لله!
بارك الله فيك جاءت بوقتها شعرت اني بكل تفصيلة من التفاصيل وارتج قلبي ونزلت دموعي بكتمان كما تعودنا على المقالات الرائعة والملهمة التي أطلت بها علينا واشتقنا لكتاباتك لتعيدينا الى… اقرئي المزيد »
ربنا يكتبها لكل مشتاق.
مقال اكثر من رائع اللهم بارك وكان قلبك هو الذي قد خطه بمشاعره عرفة رحلة التطهير تطهير الروح من علائق شغلتها عن الواحد الأحد فتنفك من ادران الشرك الى نور… اقرئي المزيد »
يا الله .. ما أجملها من هجرة، هجرة القلب و تحريره لله تعالى وحده .. مقالة رائعة نحتاجها في زمننا هذا .. اللهم اربطنا بك و اجعلنا متعلقين بك وحدك… اقرئي المزيد »
يا الله كم عشت يوم عرفات هناك معك في تلك الخيمة ….فعلا هجرة بلا جواز ولا سفر …الللهم يغفر ذنوبنا وكافة المؤمنين ….شكرا استاذة على هذه المقالة الرائعة
اللهم لاتحرمنا لذة الطاعة وتطعمنا زيارة عاجلة غير آجلة لبيتك يارب ونعيش شعور الهجرة قلبا وقالبا ياااارب الله يجزيك الخير ياااستاذة ويتقبل طاعتك ويقويكي وكل عام وانتي وفريق عمل استروجينات… اقرئي المزيد »