
وانفض موسم رمضان.. موسم سنوي من ثلاثين يوماً.. الهدف منه الصيام والقيام.. عبادة تمتد على مدى ال٢٤ ساعة من اليوم.. عبادة نهارية لا يصح رمضان إلا بها (الصيام).. وعبادة ليلية.. تطوعية… يغترف منها المؤمن ما شاء ليضاعف الأجر (القيام)..
لكن رمضان.. وخلال عشر السنوات الأخيرة.. تحول لمنافسة إعلامية.. انتقلت من المؤسسات إلى الأفراد.. منافسة تقديم موسم جديد لمسلسل ما أو برنامج ما.. على مدى ٣٠ حلقة.. والعجيب أن هذه المنافسة انتقلت إلى الأفراد.. لأن منصات هذا الزمن اختلفت.. وأصبحت تحت أقدام من يشاء.. وأصبح البوق أمام فم الجميع.. على يوتيوب.. أو فيسبوك.. أو سناب شات.. أو انستقرام..
لم يعد الأمر فقط تحفز وانتظار للمسلسل تلو المسلسل.. بل أضيف لذلك يوميات فلانة.. واللايف الخاص بعلانة.. والجوائز اليومية من الفاشينستاية.. وطبخة اليوم.. وسحور اليوم.. وموقف اليوم.. ونكتة اليوم.. وهبل اليوم!
الكل في رمضان كالمجنون يتنافس كقطارات لاهثة على خطوط بكل الاتجاهات.. يريد أن يقدم شيئاً على مائدة رمضان.. وكأن المائدة المتخمة أصلاً بما لذ وطاب.. ناقصاهم!
رمضان.. وفي كل عام يأتي.. يصبح متخماً أكثر.. مثقلاً أكثر.. محموماً أكثر.. بأي شيء.. وكل شيء.. اللهم إلا ما كان القصد منه بالأساس: صيام.. وقيام!
هل تساءلت يوماً لماذا “عدد” حلقات المسلسلات الغربية بدأت في التناقص؟ مؤسسة مثل نيتفليكس Netflex الصاعدة.. والتي تجمع ملايين الداتا والبيانات عن المشاهدين المتابعين لها يومياً.. لتقوم بتحليلها وتوظفيها في إنتاج سلسلة مسلسلات وفقاً لرغبات وتطلعات مشاهدينها.. هل تساءلت لماذا صار الموسم الواحد يحتوي على ١٠ حلقات.. وفي بعضها يكون المسلسل كله على بعضه مكون من ٣ حلقات فقط واقلب الصفحة؟؟
الأمر ببساطة لأن الجيل الجديد (جيل z) الذي تحدثت عنه في دورتي المجانية “أمومة قيادية”.. هو جيل التيك أوي.. جيل ال: لا تطولها وهي قصيرة.. وهات من الآخر.. وأعطني الطبق التالي. الجيل الكسول الملول (وهذه إيجابيات بالمناسبة).. الذي لم يعد يصبر صبر أسلافه (أمه وجدته) في متابعة ٣٠ حلقة كاملة من مسلسل خليجي أو مصري أو سوري على الأغلب يتم التشويق له طوال العام وتدشينه في رمضان.. ليكون موسمه التالي المكون من ثلاثين حلقة أيضا في رمضان التالي!
يعني من الآخر.. هناك إصرار عجيب.. على ملء ال٣٠ يوماً من رمضان.. ب٣٠ حلقة من مسلسل.. من أصل ١٥٠ مسلسلاً يعرضون على القنوات الفضائية المعروفة (قومي بالحسابات).. ليش؟؟ لأن الارتباط الذهني لدينا.. بأن رمضان.. شهر الولائم.. والمسلسلات.. نوم طوال النهار.. وسهر مع السوشيال ميديا والمسلسلات والأكل والشراب والعزائم حتى الفجر.. لم يتغير الأمر منذ أكثر من ١٠ سنوات.. بل ويزداد سوءاً عاماً بعد عام..
في حين أن نيتفليكس… المؤسسة الناشئة.. المهووسة ببيانات مشاهديها ومتابعيها وتقديم الأفضل لهم.. بدأت تكتفي ب٣ حلقات للمسلسل الواحد.. لتقدم التالي.. ومشاهدوها لا يبدون أي تذمر من هذه السياسة الجديدة.. لأنها أصلا تعكس تطلعاتهم (أو ما تريده هي لهم).. ويبدون مرونة عجيبة.. في التكيف مع سياسة نيتفليكس!
السؤال هنا: لماذا لا نملك هذه المرونة ذاتها.. في التكيف مع مقاصد رمضان؟
لماذا لا ننظر إلى رمضان على أساس أنه شهر مخطط له (من قبل الخالق سبحانه وتعالى) بناء على بيانات وحاجات البشر جميعاً.. ليعتكفوا بعيداً عن ضوضاء الحياة وصخبها.. في محراب التأمل والوحدة.. التي عاشها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء.. وهو ينتظر شيئاً لا يدري ما هو.. حتى نزل عليه الوحي واحتضنه.. فكانت انطلاقة الرسول عليه الصلاة والسلام رحمة للبشرية.. بعد هذا الاعتكاف؟
في رمضان.. قررتُ ٣ قرارات:
- إيقاف العمل على استروجينات في جميع منصاتها الاجتماعية (السوشيال ميديا)
- إيقاف العزائم جيمعها وعدم دعوة أحد لمائدة الإفطار (والاعتذار عن جميع الدعوات)
- إعداد طعام صحي خاص بي يعتمد على إلغاء النشويات والسكريات تماماً
ولم أحتج لقرار رابع يختص بمقاطعة المسلسلات.. لأننا أصلاً كأسرة لا نتابعها منذ زمن طويل.
القرارات الثلاث بالأعلى كانت خاصة بي.. باستثناء قرار العزائم.. عرضته على زوجي.. وقلتُ له بالحرف: لدينا ١١ شهراً لنعزم فيها من نشاء.. لكني أريد أن نتفرغ للعبادة في هذه الأيام الثلاثين. فوافق.
والقرار الخاص بالطعام الصحي.. رغم أنه كان يخصني وحدي.. لكن من باب الفضول قرر زوجي الانضمام إلي.. ثم انضمت إلينا بناتنا في أنواع الأطباق التي كنت أعدها.. فلم أضطر لعمل أطباق منفصلة إلا نادراً والحمدلله..
لا قطايف.. لا كنافة.. لا سمبوسة.. لا عزائم.. لا ولائم.. لا دعوات للإفطار باستثناء حالتين (وكانتا نسائيتين وبسيطتين بنفس الوقت).
كنتُ أعرف أن السباق المحموم في السوشيال ميديا في أوجه.. وأن الكثيرات ينتظرنني في رمضان لأقدم شيئاً على غرار مقالات “ربيع قلبي”.. أو حتى مقاطع سناب شات سريعة.. كنوع من النصائح.. او التوصيات.. او الخواطر..
لكنني قررتُ ألا أقدم شيئاً.. وأن أجعل رمضان هذا وكل رمضان قادم بإذن الله لنفسي.. لأنه بالأساس.. لنفسي.. لأجلي.. لخلوتي… لوحدتي.. لتأملي.. لعبادتي.. مع ربي!
لا حاجة لكي أنقل للعالم وصفة طبختي لليوم ليطبخوا مثلي.. ولا حاجة لكي أدردش أو أتفلسف بنصيحة دينية لينتفع بها غيري.. ولا حاجة لأنقل خواطري.. أو تأملاتي.. أو دعواتي لربي.. في بوست على فيسبوك أو فيديو في انستقرام..
والله زهقنا طووووول السنة نتابع وصفات وطبخات وخواطر وفلسفات وحركات وأكشنات وطلعات ونزلات وصيحات وتنزيلات ومسابقات..
رمضان هو أنسب وقت.. هو الوقت الوحيييييد من العام.. الذي يمكنني ويمكنك فيه الانسحاب بهدوء.. من كل الدنيا.. لنعيش حرفياً ما عاشه الرسول عليه الصلاة والسلام مع نزول القرآن الكريم عليه في غار حراء..
طعم الجوع والانكسار والحاجة نهاراً.. مختلطاً بطعم التضرع والذل والدعاء ليلاً..
بدون قيود كلللللل تلك العادات السمجة البالية.. التي صنعناها بأيدينا.. أو صنعتها لنا أبواق الإعلام المؤسساتية والفردية في رمضان..
نستطيع ايقاف متابعة المسلسلات.. إن شئنا..
نستطيع إيقاف تقديم أي شيء (يلهي غيرنا).. إن شئنا..
نستطيع تغيير عاداتنا في الطعام والشراب إن شئنا..
نستطيع تغيير قناعاتنا التي ظننا أننا لا نستغني عنها..
نستطيع ذلك كله..
بإعطاء القرار المناسب..
في الوقت المناسب..
وأول أفضل وقت.. كان في رمضان المنصرم..
أما ثاني أفضل وقت..
فهو الآن!

اليوم قرأت مقالك وأشكرك من قلبي على نشرك لهذه المعاني الجميلة التي نفتقدها في عصر الشتات الفكري وا يصب في عقولنا وسلوكنا وعاداتنا رغما عنا (لأننا سمحنا لها أن ترغمنا)… اقرئي المزيد »
مقآلة رآائعة و كل ما ذكرتيه استاذة خلود كان في الصميم ..فرمضان هو شهر العبادة و شهر التضرع لله و استشعار حدود الله فيما نقوله و نسمع له و نعمله… اقرئي المزيد »
كنت بانتظار مقالك الجديد منذ زمن طويل ألفتُ قراءتها و إعادة قراءتها أكثر من مرة كالعادة مقال رااائع و في الصميم أضيف لكلامك أستاذتي الفاضلة أن تعتزل النساء العمل في… اقرئي المزيد »
* أتفق معكِ، فكرة صائبة مائة بالمائة، القرار الثاني (لا أعزم ولا أتعزم) أخذته من فترة طوييييلة بفضل الله، وأظن هذا خامس رمضان أطبقه. والحمد لله أعتاد الناس ذلك وتقبلوه… اقرئي المزيد »
جميل جدا استمري
ياعيني عليكي اصبتي فعليا انا عملت اكم اشي من اللي عملتيهم فمنذ ثلاث سنين بطلت اتابع مسلسلات لانه فعليا كان وقتي يروح عليهم وفعليا الان احسن ماعندي صبر استنا ثلاثين… اقرئي المزيد »
والله خير ما عملت
انا ايضا رمضان لهذه السنة كان غير
برنامج روحاني للتقرب من الله بالذكر والدعاء والمناجاة
ربنا يتقبل منا صالح الاعمال