وصلت رزان للبيت.. وهي بالكاد تستطيع فتح عينيها..
ولم تكد أمها تراها.. حتى رفعت كفّيها بالدعاء كعادتها:
– يالله.. أسأل الله أن يعافيكِ من هذه الوظيفة الليلية.. متى تخلصين ونفرح بك يا “رزان”!
مالت عليها رزان تقبّلها قائلة بخبث:
– خلاص يا أم محمد.. قريباً إن شاء الله
رفعت أمها عينيها بدهشة واستنكار:
– ماذا تعنين؟ بهذه السرعة؟
لم تستطع رزان كتم ضحكتها.. للتو أمها تدعو لها بالزواج.. ومن ثم تستنكر أن يتقدم لها أحد..
زحفت إلى فراشها.. شبه منهارة من التعب.. وما كادت تستلقي.. حتى رنّ جوّالها..
إنها صديقتها المقربة “سناء”.. ردت عليها وهي شبه نائمة:
– بسرعة اختصري يا سناء.. أريد أن أنام!
جاءها صوت ابنة سناء ذات ال١٥ عاماً.. وهي تجهش بالبكاء:
– الحقيني يا خالتو 😢
🌸 🌸 🌸
أماه الحبيبة.. عائشة (رضي الله عنك)..
اليوم تهامست الموظفات خبر الطبيبة التي تسببت في مشكلة صحية لأحد المرضى بسبب إهمالها.. ولكنها وجدت من يتستر على فعلتها من طاقم الإدارة.. فوقعت المسؤولية القانونية على طبيبة أقل خبرة منها كانت معها..
شعرتُ بالحزن.. لأن المكان الذي أعمل فيه أشبه بالعالم بالخارج.. قلّ من ينصف فيه الناس بعضهم بعضاً.. والظلم موجود حتى من أقرب الناس لنا..
أماه الحبيبة عائشة..
كلما أتذكر واقعة الإفك.. وتفاصيلها المؤلمة على قلبك..
ولا شك.. أن أكثر ما أوجعك (مع كل الأوجاع الأخرى).. هو موقف رسولك وحبيبك محمد ﷺ.. الذي سكت عنك.. وتغير حتى في طريقة ندائه لكِ.. فيناديكِ بـ “كيف تيكم”!
موجع ومفجع 😔
لكنكِ وسط هذا المخاض.. حدثتنا بشيء عجيب..
حدثتنا عن منافستك التي كانت تساميكِ (تنافسك) عند رسول الله ﷺ.. ضرّتك السيدة “زينب بنت جحش” (رضي الله عنها)..
قلتِ عنها أنها كانت تساميكِ.. فما كان يقلقك من نساء الرسول ﷺ إلا زينب.. حتى كنتما حزبين لأزواجه.. حزب تتولينه أنتِ.. وحزب تتولاه هي.. تتنافسان في كسب معركة الحب لقلب رسول الله ﷺ..
ففي تلك الأيام الحرجة.. المتلاطمة.. التي تطاير فيها الكذب والبهتان عنكِ..
سأل الرسول ﷺ (فيمن سأل) ضرّتك.. السيدة زينب (رضي الله عنها): مَاذَا عَلِمْتِ، أوْ رَأَيْتِ؟
وقد كانت هذه فرصة أيّما فرصة.. فرصة جاءت على طبق من ذهب لها.. ربما لتسكت.. أو تلمّح.. أو أو..
المهم أن تكسب محبة رسول الله ﷺ على حسابك.. أو أن تنزل منزلتك في عينيه..
ورغم ذلك.. لم تتردد زينب لحظة.. وقالت:
يا رَسولَ اللَّهِ أحْمِي سَمْعِي وبَصَرِي، واللَّهِ ما عَلِمْتُ إلَّا خَيْرًا!
الله أكبر يا نساء بيت النبوة الطاهر!
معارك ضرائر سجال.. بينك وبين زينب (رضي الله عنكما).. للتنافس في حب النبي ﷺ..
لكن زينب تشهد لك: واللَّهِ ما عَلِمْتُ إلَّا خَيْرًا..
وأنتِ عندما تحدثيننا عنها تشهدين لها: وهي الَّتي كَانَتْ تُسَامِينِي مِن أزْوَاجِ النبيِّ ﷺ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بالوَرَعِ !
رغم المناوشات النسائية.. لكن لسانها لا يقول إلا خيراً فيكِ..
ورغم المساماة بينكما.. تشهدين لها بالورع..!
بل إنك لشدة حرصك يا أم المؤمنين.. تحدثيننا بحديث طويييل.. في محاولات أزواج النبي ﷺ لمطالبته بالعدل بينك وبينهن..
نقلتِ لنا أحداث وحوارات القصة.. كأنها حية أمامنا.. حتى انتهى حديثك بأن “زينب” (رضي الله عنها) وقعت بك واستطالت (تطاولت عليكِ) أمام رسول الله.. فأذن لكِ بالرد عليها..
وأنا أقرأ روايتك للموقف.. أذهلني هذا الحرص الشديد منكِ.. والذي قد لا ينتبه له أغلب من يقرأ روايتك..
أذهلني..
أنك حتى قبل أن تبدئي حديثك عن موقف ضرتك “زينب” (رضي الله عنها).. قلتِ عنها ابتداء:
ولم أرَ امرأةً – قطُّ – خيرًا في الدينِ من زينبَ ، وأتقَى للهِ عزَّ وجلَّ ، وأصدقَ حديثًا ، وأوصلَ للرحمِ ، وأعظمَ صدقةً ، وأشدَّ ابتذالًا لنفسِها في العملِ الذي تصدَّقُ به ، وتقربُ به ، ما عدا سورةً من حدَّةٍ كانَتْ فيها ، تسرعُ منها الفَيئة
ثم ذكرتِ أنها وقعت بك واستطالت! (المصدر: dorar.net/hadith/sharh/8730)
يااااه..
وكأنك يا أمّاه تريدين لنا أن نعذرها.. ولا نسئ الظن.. ولا أن نحمل في قلوبنا شيئاً عنها!
فبدأت بذكر أفضالها ومحاسنها.. شهادة حق من جانبك تجاهها..
تماماً كشهادة الحق التي ذكرتها هي من جانبها تجاهك!
وكأن الحياة لا تخلو من المناوشات والمشادّات والمشاكل بيننا وبين الآخرين..
لكن عندما تكون الشهادة لله..
يكون الإنصاف.. والحق.. والعدل!
ولا يقول لساننا إلا خيراً..
يكون أننا نرى المحاسن قبل العيوب..
وجميل الصنائع قبل سوء المعايب..
ولا ننسف أفضال وحسناتهم الناس عند أول خلاف أو اختلاف.. تماماً كمن يكفرن العشير!
لأنك ولأنها ولأننا بشر..
ولأن القلوب سهل خدشها.. والعقول سهل التلاعب بها..
فنكون أحوج ما نكون لكلمة حق تنصفنا.. وتنصف موقفنا أو احتياجاتنا!
أمي الحبيبة عائشة.. رضي الله عنكِ وأرضاكِ..
قرأتُ مرة مقالاً يتدبر آية واحدة: ((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) [المائدة:8] (رابط المقال)
وأجدك تجسدين هذه الآية يا أمي المنصفة.. يا ربيبة بيت النبوة!
يرتعش قلبي كلما تذكرت كلمة زينب عنكِ: والله ما علمتُ إلا خيراً..
ويطرب أخرى كلما تذكرتُ كلمتك عنها: لم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب!
ويغص بالحزن والألم.. عندما أتذكر مواقف الإجحاف والتعسف ومجانبة الحق في أيامنا هذه..
بين الزوج والزوجة..
بين الحماة والكنّة..
بين الآباء والأبناء..
بين الأخوة والأخوات..
بين زملاء المهنة والعمل..
بين الصديقات والزميلات..
وحتى على منصات التواصل الاجتماعي.. التي قلّ أصلاً أن يكون فيها أي إنصاف!
فنحكم على مظاهر خادعة دائماً.. ولا ندري ما تخفيه الشاشات من الحقائق.. ولا يهمنا أصلاً!
وحتى إذا رأينا خيراً على إنسان فلا ننصف هذا الخير.. ونعزوه لعوامل خارجية..
أما الشر.. فالسبب هو الشخص نفسه!
فلانة سعيدة مع زوجها.. اذن يا حظها!
فلانة تطلقت من زوجها.. تستحق لابد أنها السبب!
فلان توظف.. أكيد واسطة!
فلان طرد من وظيفته.. أصلاً هو فاشل!
وكأننا يعز علينا رؤية نجاحات وسعادات الآخرين.. ونستبشر بتعاستهم وسقطاتهم!
أمي الحبيبة عائشة..
هل تعرفين أننا نتداول مَثَلاً شائعاً يقول: أنا وأخي على ابن عمي.. وأنا وابن عمي على الغريب!
وكأن المقياس في المعاملة مبني على حساباتنا البشرية للعلاقات..
لا على الخوف والخشية من رب العلاقات!
ليتِك تحدثينهم يا أمّاه..
أن الإنصاف انتصار للنفس.. انتصار على الهوى حين الغضب أو الضيق أو الخلاف..
أنه تدريب عملي على تقوى الله..
فلا يقهر هواه ويتجرد للحق ويزيح الغشاوة عن عينيه إلا من استحضر نظر الله إليه وأراد أن يكون قلبه سليماً ..
ليتهم يعلمون أن عدم الإنصاف ظلم.. والظلم ظلمات يوم القيامة!
ليتهم يقرؤون لكِ.. ويشهدون حرصك على الكلمة.. وتمسّكك بالشهادة الحقة.. ولو على نفسك!
ليت قومي يعلمون!
🌸 🌸 🌸
شهقت الطفلة بالبكاء.. وحاولت “رزان” تهدئتها. تقول بين دموعها بالهاتف:
– أنا أعتذر يا خالة أنني أحدثك من هاتف أمي.. لكن أعرف أنك أقرب صديقة لأمي.. أمي تظلمني كثيراً وتعطي لأخي الأصغر كل ما يريد.. وتفضله عليّ دائماً.. ما يجعله يتطاول علي ويستصغرني ويسئ معاملتي. قلتُ لها كثيراً أنه يسئ أدبه معي لأنه يحصل على الدعم منها.. لكنها لا تلقي بالاً أصلاً لكلامي!
استمعت “رزان” لها.. احتوتها.. ووعدتها أن تتحدث مع أمها في أقرب فرصة..
أغلقت المكالمة.. وأسندت رأسها بيدها.. تفكر..
ثم أرسلت رسالة sms قصيرة قبل أن تغفو:
“سناء.. أين الهريس اللذيذ الذي تهربينه لي بالمستشفى؟ تعالي اليوم.. اشتقتُ لك ولأحاديثك!”
يتبع..
مصادر الحديث الصحيحة:
https://www.dorar.net/hadith/sharh/8730
https://dorar.net/hadith/sharh/7613
عدم الإنصاف ظلم والظلم ظلمات يوم القيامة.. أحسنت الطرح أستاذتي الجميلة خلود الغفري. سدد الله قلمك ❤️