حبيبي يا رسول الله..
اليوم انضمت إلى عائلة مرضانا فتاة لم تتجاوز ال١٧ من عمرها.. اسمها “وتين”..
لديها سرطان الدم.. وكانت تأتي من فترة لأخرى بغرض جلسات العلاج..
تعرفتُها في إحدى المرات التي مررت بها على قسمها.. حيث ستنوّم معنا عدة ليال..
من حديثي معها اكتشفتُ أنها لم تكن تصلي.. وكانت تتمنى أن تبدأ بالصلاة.. وتسأل الله الهداية..
“وتين” هذه الفتاة الرقيقة.. كانت جميلة المحيّا.. لطيفة المعشر..
لكنها لم تكن تعرف الله بعد.. لم تتقرب إليه بعد.. لم تهتدي إلى طريقه بعد..
كنتُ في كل ليلة.. أتسلل إلى غرفتها عدة دقائق..
أجدها مرهقة متعبة من أثر الأدوية الكيماوية..
فابتسم وأسألها: هل اتصلتِ بالله اليوم؟
فترد علي بخجل: لا لم أفعل.. وأكيد زعلان مني!
فأتحدث معها عدة دقائق أؤنسها.. ثم أتركها بعبارة أخيرة قبل أن أغادر:
– جربي اتصلي حبيبتي “وتين”.. عندك خط مجاني.. بدون اشتراك ولا صداع خدمة العملاء..
فتضحك “وتين” وترد بجملتها المعتادة: إن شاء الله يا خالة..
🌸 🌸 🌸
حبيبي يا رسول الله..
كلما مررتُ على مريضتنا “وتين”.. أتذكر الصحابي “خَوَّات بن جبير” (رضي الله عنه) معك..
هو ممن خرج معك إلى بدر.. لكن أصابه نصيل حجر فكُسر.. وأمرته فعاد للمدينة.. وضربت له بسهمك مع أصحاب بدر.. فكان كمن شهدها..
هذا الصحابي الشاب الوسيم.. الذي كان مفتوناً بالنساء ويغرر بهن ويراودهن عن أنفسهن قبل إسلامه.. فجاء الإسلام ليجبّ ما قبله..
ويذكر “خوّات” لنا قصة طريفة.. لا أزال أضحك كلما قرأتها له..
صلى الله عليك وسلم يا رسول الله..
ذكر أنه نزل معك (ومع بقية صحابتك) في مَرّ الظَّهْران..
وإذا به يسمع حديثاً لنسوة بجوار خيمته.. فخرج.. وأعجبه الحديث..
فعاد لخيمته واستخرج أفضل حلة له.. وخرج إليهن وجلس معهن..
جلس ليتسامر ويضحك ويتبادل الحديث..
وخرجت أنتَ (عليك أفضل الصلاة والسلام) من قبتك.. لتتفاجأ به.. هذا الصحابي.. البدري.. يجالس النسوة ويتجاذب معهن أطراف الحديث.. مرتدياً أبهى حلة تزيده جاذبية وجمالاً في أعينهن!
المشهد كله.. قد يثير الغضب والحمية..
كيف؟ أين الحياء؟ أين غض البصر؟ أين اجتناب الشبهات؟ أين وأين..
لكنك تعلم تاريخ هذا الصحابي.. وتعلم ما كان عليه قبل الإسلام..
وتعلم (بأبي أنت وأمي).. أنه بشر.. ككل الصحابة حولك..
وكل صحابي تعرفه.. وتعرف مدخله الخاص.. فتعالجه كأمهر جراح في طب القلوب والأرواح..
يااااه يا رسول الله..
إننا كمسلمين.. أحوج ما نكون إلى أن نملك مفاتيح قلوب الناس ومداخلهم..
مداخل أزواجنا.. أبنائنا.. آبائنا.. أقاربنا.. أصدقائنا.. والناس حولنا..
فهمنا لنفسية الآخر وطبيعته البشرية..
بل وحتى.. اعترافنا بطبيعتنا البشرية..
وأنه ليس منا إلا ومن ينزلق.. ويخطئ.. ويذنب!
حتى لو تظاهرنا عبر السوشيال ميديا بأننا ملائكة تمشي على الأرض..
حتى لو تظاهرنا بين الناس أننا أصحاب حق لوحدنا.. والبقية جانبوا الصواب والصراط المستقيم!
سنظل نخطئ.. وننزلق.. ونذنب!
نعود إلى تلك اللحظة التي خرجتَ بها ﷺ على “خوّات” (رضي الله عنه)..
مشهدك لوحده أثار الهيبة والرهبة في قلبه (ولا أشك في ذلك)
فما كان منه إلا أن أراد تشتيتك عما يفعل (مع النسوة).. فارتجل حجة كما يرتجلها الأولاد الصغار: يا رسول الله، جَمَل لي شَرَد فأنا أبتغي له قيدًا!
أي أني مررتُ من هنا أسأل النسوة عن جملي.. صدقني يا رسول الله.. نيتي طيبة والله!
حجة كما يتحجج بها الصغار مع أمهاتهن.. أملاً في نيل الاستحسان أو الإفلات من العقاب!
وأنتَ.. كما الأم تماماً.. نظرتَ وفهمت الموقف بأكمله..
فلم تعاتب.. ولم تحاسب.. فقط صمتّ ومضيتَ دون أية كلمة..
هكذا؟ مشيت هكذا يا رسول الله؟
طيب كيف؟ وقد أمسكته بالجرم المشهود؟؟؟؟؟
كيف.. ونحن نقرأ كل يوم عشراااات القصص والمواقف ونشاهد مقاطع الفيديو..
لايف.. بث مباشر.. عيني عينك..
الخلائق تفضح فيها الخلائق!!
لا.. لم تفعل أو تقل شيئاً..
بل ذهبت لتتوضأ.. ثم عدت إليه.. والماء يقطر من لحيتك..
لتبدأ في لعبة تربوية رائعة مع “خوّات”..
فكلما رأيته.. سألته: “أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا فَعَلَ ذَلِكَ الجَمَلُ”؟
وحتى بعد أن ارتحلتم.. كلما لحقته في المسير سألته: “السَّلَام عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا فَعَلَ شُرَادُ ذَلِكَ الجَمَلِ”؟
واللطيف..
أنك يا رسول الله حرصت أن تكنيه بأبي عبدالله.. ليفهم الدعابة خلف سؤالك..
ويفهم هو بدوره.. أن حجته لم تنطلِ عليك.. وأن عليه أن يجد مبرراً آخر.. أو يعترف إليك بنفسه..
هذا الرفق.. وهذه اللمسات الخفية في طيات سؤالك..
زادت من حرج “خوّات” (رضي الله عنه).. فسبقك إلى المدينة واختفى عن الأنظار.. حتى عن مسجدك وعن مجلسك.. خجلاً واستحياء من فعلته!
ولا ندري كم غاب “خوّات”.. لكن عندما طالت غيبته.. شق عليه فأتى المسجد.. وتحرى وقتاً لا تكون أنت فيه.. لكي لا يقع في مواجهتك..
يا الله! نسمع كم يصنع “الكلام” في الناس..
ولم نسمع عن كم يصنع “عدم الكلام” من أفعال!
فيبدأ “خوّات” (رضي الله عنه) صلاته.. ليُفاجأ بخروجك فجأة من إحدى حجرات أمهات المؤمنين..
فتصلي ركعتين خفيفتين.. وتجلس تنتظره..
نعم تنتظره.. لأنك لم تنس قصته..
ورغم انشغالاتك كنبيّ هذه الأمة..
لكن في قلبك خانة ومساحة تتابع قصة كل رجل من رجالها.. وكل امرأة من نسائها..
فما بال أزواج وزوجات يتحججون بعدم وجود الوقت لشركائهم؟
وما بال آباء وأمهات مشغولين عن أبنائهم؟
وما بال أبناء منصرفون عن بر آبائهم وأمهاتهم؟
وما بال جار.. لا يحسن إلى جاره؟
وما بال صديق.. لا يتذكر صديقه؟؟
ما بال زمننا هذا.. نجد فيه كل الوقت للتواصل عبر عالم افتراضي..
ولا نجد فيه وقتاً للتواصل عبر العالم الواقعي؟
حبيبي يا رسول الله..
هنا.. في تلك اللحظة..
يروي لنا “خوّات” مشهداً عجيباً.. من عفوية القلب.. وبراءة التفكير..
يقول أنه أطال الصلاة.. رجاء أن تذهب وتتركه في حاله..
رجاء ألا يواجه سؤالك المعتاد.. ما فعل جملك الشارد أبا عبدالله؟..
وتفهمه يا رسول الله.. تفهم أنه يطيل محاولاً التهرب منك..
لكنك بإصراااار.. تقول من خلفه بابتسامة المغاضب:
“أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، طَوِّلْ مَا شِئْتَ أَنْ تُطَوِّلَ، فَلَسْتُ بِمِنْصَرِفٍ حَتَّى تَنْصَرِفَ”..
قاعدلك يعني قاعدلك يا “خوات”.. ولتقصن علي قصة الجمل الشارد أو لتعترفن بفعلتك 😁
حبيبي يا رسول الله..
ما أجمل وأروع علاقتك مع صحابتك..
علاقة دافئة حنونة.. فيها من الأبوة.. والصداقة.. والمحبة.. والاحتواء.. ما لا تسعه وصف الكتب والمجلدات!
بعد كل هذا.. تنهار دفاعات “خوّات” أخيراً..
ويشعر أن عليه الاعتذار منك لإبراء صدرك..
فيجيب سؤالك المداعب المعهود “ما فعل شُراد جملك” ويقول لك معتذراً بخجل:
“والذى بعثك بالحق ما شَرَد ذلك الجمل منذ أسلمت”.
فتدعو له دعاء يلم شعث قلبه “يرحمك الله.. يرحمك الله.. يرحمك الله”!
فلم يعد لشيء مما كان عليه!
لم تنتقد..
ولم تقرّع..
ولم تفضح..
صمت.. ولمّحت.. وداعبت.. وتابعت..
عرفت المدخل للقلب.. فداويتَ بما هو أنسب!
أدب رباني.. من مشكاة:
((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) (آل عمران – ١٥٩)
🌸 🌸 🌸
اتصلت “رزان” بصديقتها “سناء”.. وأخذت تدردش معها وتذكر لها مواقف مضحكة مرت عليها عن الأطفال وأهاليهم بالمستشفى..
وهي تقصد بذلك أن تلمّح برفق حول أسلوب تربيتها مع أبنائها (للجنة يوتيرن -٦- فن الإنصاف)
أنهت “رزان” المكالمة.. وقد شعرت أنها فتحت باباً للتأثير الإيجابي على صديقتها..
ثم تناولت الدفتر الأصفر.. لتقرأ القصة التالية..
لكنها فوجئت بأمر غريب..
الخط مختلف هذه المرة.. خط ركيك.. ليس كسابقه..
مكتوب في أول سطر:
سامحني يا رسول الله!
يتبع..
المصدر:
راااائع
لك منا كل الاحترام استاذتنا الراقية
أسلوب جد مميز يرفع من قيمة العقل. سبحان الله بمجرد ما أقرأ لك تتجدد همتي … دعواتنا لك بالتوفيق
الله
يالجمال أسلوبك وسحر كلماتك
انجاز عظيم منك دكتورة انك تجعليننا نعود دائما لخير البرية في معالجة امور حياتنا من خلال هذه السلسة كانه بيننا صلى الله عليه وسلم من اليوم باذن الله تعالى ساعالج… اقرئي المزيد »
اللهم هذا الرفق واللين
نسأل الله أن يردنا إليه رداًجميلأ
جزاك الله عنا خيرا الجزاءأستاذتي خلود الغفري؛